ما هو جوهر لعبة “الغُو” البشرية، وما هو الأدب الإنساني؟ وما هي طبيعة لعبة “الغُو” التي لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتقنها، ويقتصر إبداعها على البشر وحدهم؟ هذه الأسئلة وغيرها بدأت تفرض نفسها بقوة على الساحة العالمية.
صدمة ألفاغو: درس من المستقبل
في عام 2016، اهتز عالم لعبة “الغُو” الاستراتيجية بعمق. فالأسطورة لي سي-دول، الذي كان يُعتبر أعظم لاعب في عصره، تعرض لهزيمة قاسية أمام برنامج الذكاء الاصطناعي “ألفاغو”. وخلافًا لكل التوقعات التي كانت ترجح فوزه بسهولة، خسر لي سي-دول بنتيجة 4-1. والمفارقة أن الجولة الوحيدة التي فاز بها أصبحت تُعرف بأنها الانتصار البشري الأخير والوحيد في مواجهة مباشرة ضد ذكاء اصطناعي في هذه اللعبة.
لقد تغير عالم “الغُو” بشكل جذري بعد هذه الحادثة. أصبح إتقان الاستراتيجيات والافتتاحيات التي يقترحها الذكاء الاصطناعي هو الطريق الأسرع للوصول إلى المراتب المتقدمة. وبات من المعتاد أن يكرس اللاعبون الشباب وقتهم لدراسة وحفظ أول 30 إلى 50 حركة يقترحها الذكاء الاصطناعي. في المقابل، تراجع ترتيب اللاعبين الذين رفضوا هذه الاستراتيجيات الحديثة وتمسكوا بالأساليب التقليدية.
هذه “الصدمة” دفعت الروائي جانغ كانغ-ميونغ إلى التحقيق في أبعادها. فخلال الفترة من ديسمبر 2023 إلى يناير 2024، أجرى مقابلات مع 30 لاعبًا محترفًا حاليًا وسابقًا، بالإضافة إلى 6 خبراء في اللعبة. وقد وصف جانغ هذه الظاهرة بأنها “المستقبل الذي وصل مبكرًا”، ووصل إلى استنتاج مثير للاهتمام: “ما حدث في عالم لعبة الغُو خلال السنوات التي تلت 2016 سيتكرر في العديد من القطاعات الأخرى. سيظهر فجأة ذكاء اصطناعي يتفوق في أداء مهام كرس لها الناس عقودًا من حياتهم، وسيصبح متاحًا بتكلفة منخفضة، وسيُجبر الجميع على التعايش معه”.
الذكاء الاصطناعي شريكًا لتعزيز الأمن السيبراني
تأكيدًا لهذه الرؤية المستقبلية، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد منافس، بل أصبح أداة حيوية وشريكًا أساسيًا. فقد أعلن معهد الأمن المالي في كوريا عن تطويره أدوات مبتكرة قائمة على الذكاء الاصطناعي لتحسين كفاءة ودقة عمليات “تحليل وتقييم الثغرات الأمنية” و”تقييم حماية المعلومات” التي يجريها بانتظام للقطاع المالي.
وتشمل هذه الأدوات “أداة الذكاء الاصطناعي لفحص ثغرات الويب” و”أداة الذكاء الاصطناعي لتشخيص الامتثال”. تقوم الأداة الأولى بأتمتة عملية جمع المعلومات عن الخدمات المصرفية عبر الإنترنت، وفحص مئات الصفحات التي تتكون منها هذه الخدمات، وتحليل النتائج. ويتيح هذا للمحلل البشري تحديد نطاق الفحص وأهدافه، بينما يقوم الذكاء الاصطناعي بتنفيذ المهام الروتينية، مما يسمح للمحلل بالتركيز على التهديدات المعقدة واتخاذ القرار النهائي. أما الأداة الثانية، فتقوم بالتحقق التلقائي من مدى توافق السياسات الداخلية للمؤسسات المالية مع القوانين والتشريعات، وتقدم تقارير مفصلة بالأسباب والأدلة لدعم القرار البشري.
وفي هذا السياق، صرّح بارك سونغ-وون، رئيس معهد الأمن المالي، قائلًا: “إن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي سيزداد بشكل كبير لمواجهة التهديدات الأمنية المتطورة. عندما يتعاون البشر والذكاء الاصطناعي، مع تركيز كل طرف على مجالات تخصصه، يمكننا تحقيق أقصى درجات الكفاءة والدقة”.
نحو ذكاء اصطناعي موثوق: الكشف عن “الحلقة المعرفية المهيكلة”
على الرغم من قدراته الهائلة، لا يزال الذكاء الاصطناعي يواجه تحديات جوهرية تتعلق بالموثوقية، مثل ظاهرة “الهلوسة” (تقديم معلومات غير صحيحة)، وفقدان الذاكرة السياقية، والانحراف عن الأهداف المحددة. ولمواجهة هذه المشكلات، تم الكشف مؤخرًا عن نموذج معماري جديد للذكاء الاصطناعي يُعرف باسم “الحلقة المعرفية المهيكلة” (SCL).
في مؤتمر صحفي عُقد في سيول، أوضح فريق البحث بقيادة البروفيسور كيم ميونغ-هو، المدير التقني التنفيذي السابق في مايكروسوفت كوريا، أن التركيز السابق على بناء نماذج لغوية ضخمة ومعقدة (LLMs) أدى إلى تفاقم مشكلات الموثوقية. وشدد الفريق على أن مستقبل تطور الذكاء الاصطناعي لا يكمن في زيادة حجم النماذج، بل في التصميم الهيكلي الذي يضمن الموثوقية.
يهدف نموذج (SCL) إلى إدارة المشاكل الهيكلية للذكاء الاصطناعي والتخفيف من حدتها بدلاً من محاولة القضاء عليها بالكامل. ويعتمد على بنية معرفية تتفاعل فيها خمسة عناصر رئيسية: الحكم، والذاكرة، والتنفيذ، والتحكم، والمعايير الأخلاقية. هذا التفاعل يهدف إلى جعل عمليات الذكاء الاصطناعي أكثر استقرارًا وشفافية.
وأعلن الباحثون أن هذا النموذج قد أظهر بالفعل إمكانيات واعدة في مجالات متنوعة مثل قطاع السفر والخدمات المالية وتطوير البرمجيات. كما أكدوا أنه يمكن أن يشكل الأساس لبناء ذكاء اصطناعي آمن ومسؤول في القطاعات الحيوية كالتمويل والتعليم والخدمات الحكومية.
واختتم البروفيسور كيم حديثه قائلًا: “لا يزال مفهوم (SCL) في طور التطوير، لكنه يمثل خطوة مهمة نحو جعل الذكاء الاصطناعي أكثر جدارة بالثقة. نأمل أن يساهم هذا العمل في بناء مستقبل تكون فيه أنظمة الذكاء الاصطناعي دقيقة وشفافة وقابلة للتكرار”.